أربعون عاماً في الحياة، أمشى في مناكبها وأسعى مجتهداً، أكتب وأحلل وأتساءل، أرصد هموم الناس، وأحاول عرض مشكلاتهم وقضاياهم متى استطعت إلى ذلك سبيلاً، لكني مازلت لا أفهم لماذا يتم إطلاق مصطلح "الخطة الاستثمارية" على عمليات الإحلال والتجديد للشوارع والأرصفة، خاصة إن كانت تلك الأخيرة بحالة جيدة، ويمكنها أن تستمر وتؤدي الغرض لعشرات، ربما مئات السنوات، لكن الجهات التنفيذية في الحكم المحلي والأحياء ومراكز المدن تصرف مخصصات سنوية من وزارة المالية تحت بنود الإحلال والتجديد، فيتم استغلالها على نحو لا علاقة له بالاستثمار أو حتى التخطيط!
حي الدقي، من المناطق القديمة الراقية في محافظة الجيزة، تستخدمه الشركات الكبرى مقرا لفروعها، وكذلك البنوك والمؤسسات الخدمية، والتوكيلات المحلية والأجنبية والسفارات والبعثات الأجنبية العاملة في مصر، ومؤخراً صار حياً للصحافة، بعدما أسست أغلب الجرائد الخاصة مقرات لها في الحي ذاته، إلا أن محافظة الجيزة، ودون سبب واضح أو خطة مدروسة، قررت العبث بعدد من شوارع الدقي، أولها كان شارع مصدق، الذي تعرض لتكسير في مدة زمنية تجاوزت الشهرين تقريباً، لدرجة أن اللوادر والجرارات كانت تسير ليلاً بسرعات جنونية، وكأنها مضمار سباق، بأصوات مزعجة، وعشوائية فجة، دون مراعاة لحرمة السكان، الذين ضاقوا من تلك الأفعال.
بعد نحو شهرين من التجديد المزعوم في شارع مصدق، لم أر أي اختلافات أو مشاهد تؤشر أن التطوير مر من هنا، الشارع لم يتغير كثيراً، الأرصفة كان بعضها رخامياً أمام الشركات والبنوك، تم تكسيرها واستبدالها بـ "الانترلوك"، ذلك البلاط القبيح، الذي لا يحمل جمالاً، ولا يعبر عن أصالة، بل مع هطول الأمطار يتخلخل ويتهاوى ويهبط، نتيجة الخامات الرديئة، وعمالة مقاولي الأحياء، التي يعرف الجميع مدى جودة أدائها.
بعد التكسير الممتد في شارع مصدق، وكل ما تم إنفاقه من موارد وأموال، كان يمكن توجيهها للقرى الفقيرة والأماكن النائية الأولى بالتطوير والتجديد في محافظة الجيزة، امتدت عمليات التكسير لشارع إيران المجاور، 4 أسابيع من الفوضى والضوضاء حولت الشارع إلى مكان عشوائي، كسر الطوب في كل مكان، الرمال تكسو الأرض والأرصفة، أكوام التراب ولفائف الانترلوك في مداخل العمارات السكنية، دون مراعاة للمشهد العام أو حرم الطريق أو المارة، أو أصحاب المحال التجارية، الذين تعطلت أعمالهم، ولم يعد بإمكانهم الاعتراض أو الشكوى.
رغم مرور شهر كامل على أعمال التكسير في أرصفة شارع إيران لم نر مسئولاً واحداً من محافظة الجيزة يتابع تنفيذ الأعمال أو يخبر السكان بموعد انتهائها، خاصة أن المقاول المسئول عن الشارع يعمل يوماً واحد أو يومين في الأسبوع تقريباً، ما جعل منطقة مساحتها لا تتجاوز 200 متر، تستغرق نحو 4 أسابيع، ولم يتم الانتهاء منها حتى الآن، ولا نعرف موعداً محدداً أو مدى زمني لهذه الفوضى، التي لم يكن لها داع سوى إنفاق ميزانيات، وتسوية أوراق، لا تتناسب مع الوضع المالي العام في الدولة، وخطط التقشف التي تستهدفها الحكومة في الوقت الراهن، ارتباطاً بأزمات مالية عالمية تستلزم ترشيد الإنفاق، وتقليل الخامات المستوردة، والاستفادة من الممكن والمتاح، بدلاً من التخطيط للإسراف، تحت عناوين براقة يسمونها "الخطة الاستثمارية".
أتمنى أن يخرج المهندس عادل النجار، محافظ الجيزة من مكتبه، ويتابع معدلات التنفيذ والإنجاز، التي تمت في شارع إيران بالدقي، ويعطينا موعداً مناسباً لإنهاء هذه الأعمال، لاستعادة الهدوء، ويخبرنا بجدوى تكسير الرخام والبلاط من أرصفة الشوارع لاستبداله بــ"الانترلوك"، الذي تتحمل الدولة تكلفته كاملة، في وقت نحن أحوج فيه للحفاظ على كل مليم من المال العام، تحوطاً واستعداداً لسيناريوهات إقليمية ودولية، لا يمكن لأحد التنبؤ بنتائجها بصورة دقيقة، أو يضع حلولا جذرية لها.
لآبد للأجهزة الرقابية بمختلف تخصصاتها أن تقدم تقاريرها عن خطط الإحلال والتجديد في عشرات بل مئات الشوارع على مستوى الجمهورية، وتسلمها للمسئولين في الحكومة، حتى نعرف مدى جدواها وأهميتها في الوقت الراهن، وأعي جيداً أن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، يحرص على حوكمة الإنفاق، ومراجعة أوجه الصرف المختلفة بالجهات التنفيذية، وتجفيف منابع الفساد وغلق الأبواب الخلفية، وأتمنى أن يتابع على وجه التحديد والدقة، قضية تكسير الأرصفة والشوارع، رغم حالتها الفنية المقبولة، وما تبع ذلك من إهدار لموارد الدولة، والإنفاق بصورة لا تتناسب مع الحالة العامة، التي تستلزم شد الأحزمة، والاقتصاد في أوجه الصرف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة