جيهان زكـى

مصافحة الفكر ومدد المعرفة

الأربعاء، 15 يناير 2025 05:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حوار مجتمعي قائم حول مقترحات وزارة التعليم بشان إعادة صياغة المناهج التعليمية على مدار سنوات النشأة ـ وهي السنوات الأهم في تكوين الإنسان المصري، وبالأخص حول التحول من الثانوية العامة الي البكالوريا، وكذلك إضافة التربية الدينية و حذف الفلسفة .


في الحقيقة وقبل أن أسترسل في سردي هذا، أود أن أذكر القارئ أن عليه وعلينا جميعا أن ندرك أنه لم يعد من الترف في هذه الأجواء الدولية المغايرة، وحروب الفكر أن نعتمد على محاكاة الغرب، وخاصة في قراءته للتاريخ، بل يجب علينا إعادة النظر في الأمور والاحداث التاريخية بـ "عيون مصرية" و"روح وطنية "حيث إن الفكر لا يجابه إلا بالفكر!

وفي هذا السياق، أكدت أبواق كثيرة في الآونة الأخيرة عبر المنصات المختلفة عن ضرورة الاهتمام بمحتوى الكتب الدراسية، وأيضا التركيز على كيفية تناول مادة "التاريخ" في المناهج التعليمية في المراحل التأسيسية التي تؤثر تأثيرا مباشرا في بناء الإنسان المصري.


أعرف أن ضغوط الحياة شديدة هذه الأيام وأن الأزمات تتتالى و تثقل كاهل المواطن يوم بعد يوم..


أسمع القارئ يقول لي أن هناك أولويات تسبق الاهتمام ببناء الإنسان، ولكن اسمحوا لي اليوم أن أؤاكد أن الإنسان هو الأولوية الأولى، ويجب أن يكون هو محور منظومة الدولة، كما ورد في الاستراتيجية المتكاملة التي وضعتها الدولة المصرية بهدف بناء أجيال جديدة واعية لديها أفكار متطورة وقادرة على القيادة محاربة الفكر المتطرف والمفاهيم المغلوطة وبالتالي تحقيق الاستقرار السياسي والتماسك الوطني.


ويأتي نص هذه المادة كما يلي:
"بناء الإنسان المصري هو السبيل لتحقيق النهضة الشاملة والمتكاملة، فالعقل المصري يحمل إرثًا عظيمًا عبر فترات التاريخ، عبر الوعي الجمعي لشعب وتاريخ مصر، وهذا يعد جزءًا من تكوينه"

أستعرض في هذا المقال أحد النقاط التي اراها في غاية الحساسية لانها تتعلق بما نقتبسه ـ نحن هنا في مصرـ  من وعاء الغرب من افكار و عادات و تقاليد، فهناك تيار ثقيل الخطي يغزو مجتمعاتنا و لاسيما يهيمن علي ملف التعليم و الثقافة العامة، و هو ذو تاثير مباشر علي بناء الانسان.

فكثير من صفحات كتب التاريخ تستسقي زادها من قدح علماء الغرب بل و لا يكلف القائمين علي محتوي هذه الكتب  نفسهم عناء مضاهاة المحتوي بما اقره العلماء العرب بشهاداتهم الذاخرة بالمعارف و التجارب .

أعرف أن ضغوط الحياة شديدة في هذه الأيام وأن الأزمات تتالى ولا يبقى للإنسان سوى التمسك بكلمات بسيطة مثل "العبد في التفكير و الرب في التدبير" فهذه الكلمات تملا قاموس الأمثلة العامية المصرية و تتردد بعفوية أثناء الأزمات والابتلاءات لتخفف عن الإنسان واقع الحياة وتحنو عليه وتمنحه الأمل.


ومع انتصاف العقد الثالث في الالفية الثالثة، تكثر الصراعات وتشتد وطاءة الازمات، فان أردنا الحياة السوية لمجتمعاتنا، فلنفسح في عقولنا مجراً للفكر المستنير ونرسم في قلوبنا نهرا للوعي والادراك.


استحضر هنا مقولة المفكر الفرنسي "أوجست كونت" "لا سبيل إلى المعرفة إلا بالفكر والوعي و الادراك " تلك العقيدة التي اعتنقها هذا الرجل منذ بداية رحلته البحثيه في العلوم الانسانية خلال سنوات حياته التي عاشها في غضون القرن التاسع عشر والتي أسسها وفقا لرؤيه حديثة ـ بالنسبة لهذا الزمن ـ   و هي رؤيه متعلقة بتناول التاريخ و قراءته بعد تجريده تماما من الخرافات والروايات التي تثقله أحيانا و تشوهه لمغايرتها للواقع و لعدم اتفاقها و المنطق أحيانا اخري. و علي خلفية هذه الرؤية، اصبح "أوجست كونت" أوّل من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية وذلك بهدف توسيع المدارك و التعلم من دروس الماضي.. فارتبط اسمه في عصورنا الحديثة بتاسيس"علم الاجتماع "
ولكن..
في مصر والعالم العربي، هذا الكلام يبدو غريبا ويدعو للتساؤل: اين اذاً العالم والمؤرخ العربي "ابن خلدون"؟
تعلمنا جميعا في المرحلة الثانوية ـ مع اختلاف الأجيال ـ ان ابن خلدون هو أوّل من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية و انه هو من اسس علم الاجتماع والتخطيط العمراني و درس بناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها،
اذ انه هو من قال عن مصر:

"إن أهل مصر يعيشون كأنما فَرَغُوا من الحساب الأخروي، ذلك أنهم غَلَبَ الفرحُ عليهم والخِفّة والغفلة عن العواقب؛ فبلادهم هي حضرةُ الدنيا وبستانُ العالم، ومَحْشَرُ الأمم ومَدْرَجُ الذَّرِّ من البَشر، وإيوانُ الإسلام"

وقد كانت "مقدمة ابن خلدون" تلك التي الفها هذا العبقري من ابهي جماليات الادب العربي وارقي ما خلده لنا تاريخ القرون الوسطي.
كيف اذاً يذيع التاريخ الحديث و يردد علي لسان المؤرخين ان "أوجست كونت" الذي عاش في القرن التاسع عشر هو الذي وضع حجر الأساس لعلم الاجتماع و نحن لدينا باكورة الكتابات في هذا العلم :مقدمة ابن خلدون ومؤلفات اخري عديدة تم نشرها في القرن الرابع عشر أي خمس قرون من الزمان قبل ميلاد "كونت"؟

عود على بدء، فقد ارتأيت ضرورة الوقوف علي مجريات الأمور في هذا الشأن و التامل في هذا اللقاء الفكري بين الشرق والغرب رغم حواجز الزمان و المكان و إلقاء الضوء علي الركائز الفكرية التي جمعت بين عالم من جنوب المتوسط " ابن خلدون"  الذي ولد عام 1332م في تونس، قضى عمره في الترحال الجغرافي بين تونس، و أرجاء المغرب والأندلس و ربوع العالم القديم حتى أنهى رحلاته بمصر التي عاش على ضفاف نيلها وصنع في فضاتها ابداعات غير مسبوقة اثبت بها ريادة و تميز، عاش ابن خلدون حياة مضطربة و لم ينعم بالهدوء والاستقرار حتى توفى عام ١٤٠١م ودفن في رحاب مدافن باب النصر.
اما نظيره من شمال المتوسط ـ حتي و لو جاء الي الدنيا علي بعد قرون ـ كان المفكر" أوجست كونت" الذي ولد عام ١٧٩٨م في فرنسا لوالدين كانا من الرومان المنتمين بشدة الي الديانة الكاثوليكية. و في هذه الأجواء المحافظة اثبت كونت تفوق كبير في مدرسة البوليتكنيك ذات الصيت و الجاه في الدوائر الاريستوقراطية، غير انه سريعا ما ضجر من هذا النمط الرتيب للحياة وقرر السفر  الي باريس و الاستقرار هناك رغم صعوبة تحصيل الرزق ، و هناك اخذ يَُدَرِس الصحافة والتاريخ والرياضيات أحيانًا.


و كانت حياته مثل ابن خلدون مضطربة، هائجة مائجة ومليئة بالتقلبات التي حرمته من الاستقرار حتى توفى عام 1857 م في باريس.
 كونت وابن خلدون لم يلتقيا جغرافيا ولا تاريخيا إلا أنهما اجتمعا على مبدا تصافح الفكر والشغف بمعرفة الآخر و مدد المعرفة و يكفي هنا ان نذكر ان "كونت" كان له معرفة كبيرة بالشرق و تتلمذ علي يده الكثير من الباحثين العرب و المسلمين و لعل محمد مظهر باشا كان من اشهر أتباعه في مصر و الوطن العربي في الفترة ما بين١٨٣٢ م و ١٨٤٢ م و علي صعيد مماثل، فقد عرف  "ابن خلدون" الغرب بقدر كبير و عاش علي أراضيه و عمل ببلاط ملوكه حتي انه عين من قبل سلطان "غرناطة" كسفير  يقود مباحثات التهدئة مع ملك قشتالة بِطْرُه بن الهنشة بن أذقونش و السعي لعقد الصلح بينهما، وقد أدى ابن خلدون مهمته الدبلوماسية بنجاح كبير، فكافأه السلطان على حسن سفارته بإقطاعه أرضًا كبيرة، ومنحه كثيرًا من الأموال، فصار في رغد من العيش في كنف سلطان غرناطة.


وهنا..  بادر الي ذهني الحوار التخيلي الذي اقمته بيني وبين هذا الكيان الذي سمى "التاريخ" واسترجعت أحد انفعالاته التي تاثرت بها و وددت ان اشارككم إياها لاني أراها تنطبق على ما تم سرده بإعلاه عن واقع ابن خلدون و الصورة المصدرة عن "اوجوست كونت" كـ مؤسس ل"علم الاجتماع" في الوثائق التاريخية.

أنا التاريخ ..
هذا الكائن الوفي الذي تغير عليه رجال ونساء غير انه لم يعبأ
وتقدم بخطي ثابتة و عبر سبيل الزمان ودروب الأيام
ولم يحمل في جعبته إلا الحقائق والقرائن والأدله والأمارات
أنا التاريخ..
يتهمني البعض بـ “المغاير" وأحياناً بـ "المغالط" غير أنني برئ، ليس لي يد في سردي،
فمن رسم ملامحي وخانه الضمير، وارتأى وضع لمساته على وجهي، فرسم جفون عيني بقلمه وأضاف حسنه على وجنتى وضم شفتي ومد خطوط عريضة على جبينى،
فغاير واقعي
لاصبح انا ليس بأنا..
أنا التاريخ !










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة