تمثل الأمثال الشعبية سجلًا حيًّا لعادات المصريين وتقاليدهم، وتُستخدم للتعبير عن الرأي في المواقف المختلفة، وتوجيه النصائح، والتسلية، كما أنها تعد من وسائل التواصل غير الرسمية بين الأفراد، حيث يسهل على الناس تداولها لتفسير الأحداث والتجارب بطريقة سريعة وفعالة.
وعلى مر العصور، تطورت الأمثال الشعبية في مصر لتواكب تغيرات المجتمع، وتُظهر تطور الفكر الجمعي للمصريين وكيفية تعاملهم مع التحديات والأفراح والآلام اليومية.
ومن خلال هذه الأمثال، يمكن للمرء أن يتعرف على الهوية المصرية الثقافية، ويتفهم طرق التفكير والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، بل ويفهم مدى الترابط والروح المجتمعية التي تميز الشعب المصري.
ويقول الكاتب الكبير محمد جبريل في كتابه "مصر: الأسماء والأمثال والتعبيرات" إن الأسرة في المجتمع المصري احتلت مساحة عريضة من الأمثال، باعتبارها محورًا للعلاقات الاجتماعية، مثلا في موضوع المهر.
بعض الأسر راحت تعنى بالمهر تعبيرًا عن قيمة فتاتها: "أصيلة وعلى الحصيرة، اخفوا دي السيرة؛ مشورة ومن شعيرة، اكتب بلا مشورة"، بينما تجد أُسرًا أخرى أن "المهر تقليَّة، الرَّك على العيشة الهنيَّة".
والزواج هو مصير كل فتاة، وعليها أن تحاول — ما أمكن — التعجيل به، والأمثال في ذلك عديدة: "من كُتْر خُطَّابها بارت، مسَّى عليها الليل واحتارت"، "خطبوها اتعززت، فاتوها اتندمت"، "لا اتجوزْت ولا خِلي بالي، ولا أنا فضلت على حالي"، والهدف في كل الأحوال أن تجد الفتاة المناسبة الشابَّ المناسب: "جوِّزوها له، ما لها الَّا لُه" والأمثال تنصح الرجال بالإقدام على الزواج، شريطة أن يكون زواجًا ناجحًا، ينهض على أساس من التكافؤ والنِّدِّية والتوافق: "خد نِدَّك على قدَّك"، "قرد موافق ولا غزال شارد"، "خُدوهم فقرا يغنيكوا الله"، "خد الأصيلة ولو كانت على الحصيرة"، "من عَمَلهم تجارته، يا خسارته"، "يا واخد القرد على كتر ماله، يروح المال ويفضل القرد على حاله"، "إن ما كانش لك أهل ناسب"، "النسب حسب، وإن صح يكون أهليَّة"، وتنصح الأمثال بأن تكون الزوجة مطيعة، ملبِّية لطلبات زوجها ورغباته، وأن تكون له مصدر سرور وهناءة: "ضل راجل ولا ضل حيط"، "الجواز سُترة"، "الجواز قسمة ونصيب"، "الجواز نص الدين"، "كل شيء بالخناق، إلا الجواز بالاتفاق"، "ربنا يهنِّي سعيد بسعيدة"، "اللي يعيب الراجل جيبه"، "البايرة على بيت أبوها".
ومن الأمثلة ما يدعو إلى تأكيد الروابط الأسرية والعائلية: "اللي بَلا أم حاله يغم"، "اقلب القِدرة على فُمَّها تطلع البنت لأُمَّها"، "اخطب لبنتك ولا تخطبش لابنك"، "إن كبر ابنك خاويه"، "ابن بطني يعرف رَطني"، "أعز من الوِلد ولد الولد"، "البنت سرُّ أمَّها"، "دراع الولد سند وعون"، "الدم ما يبقاش ميَّه".
ويبيِّن الكثير من الأمثال عن العلاقات الفوقية التي يمليها النظام الأبوي، أو القَبَلي، أو نظام الطبقات. ومن الأمثلة التي تعبر عن سخريتها، أو رفضها، لهذا النظام: "اللي يبص لفوق يتعب"، "اللي يبص لفوق توجعه رقبته"، "رايح فين يا زعلوك (يا صعلوك) بين الملوك"، "إيش عرَّف الحمير بأكل الجنزبيل"، "اللي ما يسمع كلام كباره، ياما يجرى له"، "الغُلب ما هُوَّاش عيب لما القضا اتحكِّم، واتسلطن ابن الندل في الأصيل واتحكِّم".
لكن الروح المتأصلة في وجدان الشعب المصري، كانت ولا تزال ترفض كل تلك العلاقات الفوقية. والرفض أحيانًا يجاوز حدوده السلبية، ليصبح تمردًا، فمقاومةً، فثورة، ليصبح أفعالًا إيجابية. والأمثال بعامة تؤدي دورًا متميزًا، المثل يقول: "اللي رشِّنا بالميَّه نرشُّه بالدم." المعتقد المصري يجد في رش الماء في الوجه تعبيرًا عن العداوة (إزازة ريحة). ولا بد أن يقابل الفعلَ المادي فعلٌ أكثر قسوة، الأمثال تقول: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، "الروح ما يخدهاش إلا خالقها"، "يا فرعون إيش فرعنك؟ قال: ما لقيتش حد يردني".
ثمة أمثلة تعبِّر عن أشخاص، مثل: "يعمل من الفسيخ شربات"، "اللي من برَّه هالله هالله، ومن جوَّه يعلم الله"، "قاعد على نُخ، ويقول: بخ"، "مِكسَّحة وتقول للصايغ: تقِّل الخُلخال"، "يودِّيك البحر ويرجَّعك عطشان"، "يعمل من البحر طحينة"، "حَط في بطنه بطيخة صيفي"، "يضرب الأرض تطلَّع بطيخ"، "يعمل من الحبَّة قُبَّة"، "لا يجيب خبر ولا يودِّي خبر."
الحيوان موجود في عدد كبير من الأمثال، ربما استمرارًا لوجود الحيوان في التراث الفرعوني والعربي، وربما لأن الحيوان بُعد مهم في البيئة المصرية على توالي عصورها: «ارقص للقرد في دولته»، «الزقاق ضيق والحمار رفَّاص»، «موت يا حمار على ما يجيلك العَلِيق»، «آدي الجمل وآدي الجمال»، «ساب الجمل بما حمل»، «قالوا حيسخطوك يا قرد، حيخلُّوك غزال»، «إن كان لك حاجة عند الكلب، قل له: يا سيدي»، «زي التور اللي بيدور في الساقية»، «ديل الكلب عمره ما ينعدل»، «جاب الديب من ديله»، «زي بغل الوِسِيَّة»، «ما يبقى على المَداود الَّا شر البقر»، «زي حمير الغجر؛ تنهَّق وهيَّ نايمة على جنبها»، «زي القطط بسبع أرواح»، «التكرار يعلم الحمار»، «الجسم جسم فار، والأكل أكل حمار»، «صُلح الديب ع الغنم».
اللافت أن الأمثال الشعبية تنطوي على قيم متضاربة؛ الأمل واليأس، القوة والضعف، الإقبال على الحياة وتمنِّي الموت، سب الحاكم والتذلل له.. إلخ. وفي أعقاب نكسة يونيو كتب مصطفى محمود مقالًا يؤكد فيه تناقض الشخصية المصرية وتوزُّعها، واستدل على رأيه بالأمثال العامية المصرية التي قد تُؤْثر السلامة أحيانًا، وتدعو إلى العنف أحيانًا أخرى، وتنادي بالتمهل، وتنصح في الوقت نفسه بالاقتحام. وأشار الكاتب إلى أن بعض بواعث النكسة، تلك الشخصيةُ المتناقضة، الموزَّعة، المتحيرة، والمحيِّرة.
والواقع أن تناقض الأمثال تعبير عن التناقض القائم في المجتمع نفسه؛ ثمة من يميلون إلى المقاومة، ومن يفضلون المهادنة، وثمة الصدق والكذب، الشجاعة والخوف، الإقدام والتخاذل، الكرم والبخل، التسامح والرغبة في الثأر … إلخ. ذلك كله ينعكس بالضرورة في تباين النظرة إلى ما يواجهه المجتمع من تطورات وأحداث.
إن التناقض في الأمثال تعبير عن تباين الآراء إلى الحدث الواحد، فما يرفضه البعض ويعطي فيه مثلًا، قد يقبله البعض الآخر ويجد فيه مثلًا مقابلًا. الاختلاف قائم في كل أمورنا الدينية والدنيوية، وهو ما ينعكس بالضرورة في وسائل تعبيرنا عن ذلك الاختلاف، والمثل بُعد مهم في وسائل التعبير. ولعلِّي أوافق إبراهيم شعلان على أن التجربة الاجتماعية غير مستقرة، بحيث يصعب أن تخضع لأحكام عامة ثابتة. التجارب في الحياة قد تتفق في نتائجها، وإن يتناقضْ بعض هذه النتائج مع بعضها الآخر تمامًا» (الشعب المصري في أمثاله العامية،47).
ويضيف عبد العزيز الأهواني: «وإنما التناقض لأن النفس الإنسانية ذاتها تحمل في طَياتها هذا التناقض، وتتجاذبها العوامل النفسية باختلاف الظروف. وفضلًا عن ذلك، فإن المجتمع بطبيعة انقسامه إلى طبقات وطوائف، واختلاف في المهن، وفي المستويات العقلية والمعيشية جعلَتْ نفسيات أهله — وإن الْتقت في نواحٍ من وجهات النظر — تختلف في نواحٍ أخرى» (في ذكرى طه حسين، 249-250).
من الصعب إذن أن نصنِّف كظاهرة سلبيةٍ ذلك التناقضَ، وربما التضاد، في الكثير من الأمثال الشعبية. بل إن تناقض الأمثال ظاهرة في الموروث الشعبي العالمي بعامة؛ ذلك لأنها تعكس تطورات الحياة بالمتغيرات التي تفرضها تطورات الأحداث.
وربما يتصل بهذه النقطة ما يأخذه بعض الدارسين على أمثالنا العامية أنها قد تَجنَح أحيانًا إلى طلب المهادنة والاستسلام، وربما الشذوذ والتحلل والانحراف، مثل: «فِرِغ السلام، بقَى تفتيش الأكمام»، «جينا نساعده في دفن ابوه، فات لنا الفاس ومشي»، «إن دخلت بلد تعبد العجل، حِش وارمي له»، «إن دري جوزك بغيبتك، كمِّلي يومك وليلتك»، «اللي يعفَّر عُفار ييجي على دماغه».. إلخ.
مبعث تناقض الأمثال أنها ليست وليدة زمان ولا مكان محدَّدين، إنما هي إفراز متصل للتاريخ المصري منذ أقدم عصوره، حتى عصور الفراعنة، أعاد الوجدان الشعبي صياغة أمثالها بالعامية المصرية، فهي تعبير عن مراحل زمنية متواصلة وممتدة، وعن بيئات متباينة، وإن ضمَّتها جميعًا مساحة الوطن الواحدة.
والأمثال الشعبية لا تقتصر على طبقة أو فئة من الشعب، إنما هي نتاج كل الطبقات والفئات، باختلاف ثقافاتها واهتماماتها وانتماءاتها الدينية والاجتماعية، فضلًا عن أن المثل يظهر في مناسبة بذاتها، تجعل ظهوره ضرورة، وليس اعتباطًا، وربما تكون المناسبة وقتية، أو تكون قائمة وممتدة، ومن هنا يَبين التناقض، وربما التضاد، في الأمثال الشعبية المصرية، وإن كانت بعض الاجتهادات تجد المغزى الذي تريد هذه الأمثال وغيرها التوصل إليه، هو أن تضع أمام الناس عيوبهم عارية واضحة مكشوفة، ليحاولوا من بعدُ التخلصَ منها، ومحاربتها. وكما يقول عبد الحميد يونس فإنها «تضعها أمام الأفراد على المشرحة»، وتدعو — بطريقة غير مباشرة، وخالية من أسلوب الوعظ — إلى النفور منها، والعمل على تفادي الوقوع في إسارها.
أخيرًا، هناك الأمثلة التي تعلن حتمية الموت: «آخر الحياة الموت»، «كرامة الميت دفنه»، «ما حدِّش ضامن الموت من الحيا»، «الأعمار بيد الله»، «شايل الدنيا ومتحزِّم بالآخرة»، «ما حدِّش ضامن عمره»، «ألف عيشة بكَدَر، ولا نومة تحت الحجر»، «التربة تساع ألف»، «زي التربة ما تردِّش ميت»، «الحي أبقى من الميت»، «عين ابن آدم ما يملاها الَّا التراب»، «كل شيء مصيره التراب»، «ما يبكي على الميت غير كفنه»، «الموت علينا حق.»
الملاحَظ أن لغة المثل قد تعلو فتقترب من الفصحى، وقد تهبط فتبدو نابية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة