كلُّ المُؤشِّرات المُتواترة تُرجِّحُ الذهابَ إلى تهدئةٍ فى لبنان. التفاؤلُ عند أعلى مستوياته، وتُغَطِّيه تصريحاتٌ إيجابيَّةٌ من واشنطن وبيروت وتلِّ أبيب، وبحسبِ المنسوب إلى مصادرَ مُجَّهَلةٍ رفيعة المُستوى، يُفتَرَضُ أنْ يصدُرَ إعلانٌ مُشتركٌ عن الرئاستين الأمريكية والفرنسية مع مُثول الجريدة للطَّبْع، وإنْ كنتُ أعتقدُ حتى وقت كتابة المقال، ظهيرةَ الثلاثاء، أنَّ الوِفاقَ الكاملَ قد يستغرقُ عِدَّةَ أيَّامٍ إضافية، شريطةَ ألَّا يعودَ نتنياهو للمُراوغة، ولا أن يُحفِّزَ حُلفاءه من الأحزاب التوراتيّة على التصلُّب وإفساد المُقاربة.
وفى كلِّ الأحوال، بات بالإمكانِ القَول إنَّ الحربَ على الجبهة الشمالية قد وَضعَتْ أوزارَها، وما يتبقَّى فيها، طالَ أمْ قَصُر، أقربُ لتنفيسِ أثرِ الضغط المكتوم طوالَ شُهورِ الاحتدام، وتهيئة الأجواء للصفقة التى صارت اضطراريَّةً، بأفضليَّةٍ نِسبيَّة لإسرائيل فى الشروط والترتيبات، وعلى خلافِ كلِّ ما كان مطلوبًا ومحلَّ تشديدٍ من جانب الحزب.
المحاورُ العريضةُ فى نطاق الاتفاق الكامل، والخلافاتُ المُعلَنَة قابلةٌ للتذويب عبر آليَّات إدارة المرحلة الانتقاليّة، فالفكرةُ كُلَّها تتمحورُ حول القرار 1701 فى صيغتِه الأصليَّة، وعَمودُه إخلاءُ المنطقة من جنوبىِّ الليطانى حتى الخطِّ الأزرق، وتفعيل أدوار الجيش اللبنانى وقوات اليونيفيل الدولية. أخفقَتْ تلُّ أبيب فى فَرضِ نُسخةٍ مُعدَّلَة عن تجربة العام 2006، وتقبَّلتْ بيروت تَوسِعَةَ اللجنة المُشرفة على التنفيذ بإضافة واشنطن وباريس، مع نجاحها فى استبعاد لندن وبرلين.
أمَّا المُطالبةُ الإسرائيليَّةُ بحُريَّة العمل فى الجنوب، برًّا وبحرًا وجوًّا، فقد سقطَتْ عَمليًّا، كما لم تَمُرّ بعُنوانها المُراوغ عن «حق الدفاع للطرفين»، اكتفاءً بالضمانة الأمريكية عن شرعنة التدخُّل المُباشر، مثلما اكتُفِىَ عن القرارين 1559 فيما يخصُّ نزع سلاح الميليشيات، و1680 لضبط الحدود مع سوريا، بالنصِّ عليهما ضِمنيًّا فى وريثِهما الأحدث.
وبينما يتقدَّمُ مَوكبُ التفاوض، كانت رسائلُ النار تتردَّدُ بين بيروت وتل أبيب، تصاعدَتْ حماوةُ الهجمات المُتبادَلة، وكثَّفَ الاحتلالُ من غاراته، مُقابلَ توسعة حزب الله لمَدَى الاستهداف ونوعيَّة القذائف.. وبقَدرِ ما يصحُّ التفسير بالرغبة فى الضغط لتحصيل شروطٍ أفضل، يقبلُ السياقُ احتمالَ أنها جولةُ استئسادٍ أخيرة قبل الإعلان المُتبادَل عن الصمت.
يطمعُ كلُّ طرفٍ فى أن يكون صاحبَ الرصاصة الأخيرة، كما يتيسَّر لكليهما الزعم بأنه لم يُفرِّط أو يرتدع، وعليه يصبحُ بمَقدورِه أن يُسَوِّقَ التهدئةَ على صِفَة الغَلَبَة، والتفاهُمات الأخيرة على معنى النصر.. وهكذا، ستتوقَّفُ معركةُ السلاح، وتندلعُ معارك الدعايات، وسيحاولُ كلٌّ منهما أن يَصرِفَ معنويَّات القتال فى جبهاتٍ أخرى، أكان إزاءَ البيئة الداخلية من جانب الحزب، أو للالتفات نحو إيران وإرعاب فصائل غزَّة فى حالة إسرائيل.
بعيدًا من كلِّ الإشارات البيضاء، فإنَّ القَبولَ الحزبىَّ للصفقة بصُورتها النهائيَّة، أقربُ إلى القفز من سفينة طهران، ولو أبدَتْ الأخيرةُ قبولا ناعمًا.. بمعنى أنَّ طبيعةَ العلاقة لا تجعلُ «الضاحيةَ» جبهةَ عملٍ معزولةً عن دائرة الشيعيَّة المُسلَّحة، وقد رُكِّزَتْ أصلاً فى مواضعِها، وبحدودِ قُوَّتِها المُتضخِّمة، لأجل أنْ تكونَ قاعدةً مُتقدِّمةً للمشروع، ودرعًا وقائيَّةً للعاصمة الأُمّ.
ولم يَطْرأ تغييرٌ على التهديدات الإسرائيلية المُحِيْقة بالجمهورية الإسلامية، ليصحَّ الافتراضُ بأنها باتتْ تتخلَّى عن الطابع الوظيفىِّ للميليشيا، أو يُمكِنُ أن تُبادِرَ لفَكِّ أَسرِها من شعار «وحدة الساحات»، ولا أنَّ المُلاينةَ فى الجبهة اللبنانية، ستنعكسُ وجوبًا على تخفيض التوتُّر فى الجغرافيا الفارسية.
والمنطقُ الوحيد، أنَّ الضاحية تضرَّرت لدرجةٍ يَصعُب احتمالُها، والنزولُ اليومَ أقربُ لمحاولة استنقاذ ما يُمكن إنقاذُه، كما أنَّ العِمامةَ الكُبرى بدورِها تتحسَّبُ من انفراط العقد بالكامل، أو سقوط «دُرَّة التاج» عن مكانها، بمعنى خروج الحزب عن طَوع المُرشِد ونظامه وحَرَسِه الثورىِّ.
ما سبقَ ليس افتراضًا خياليًّا مُغرقًا فى الرومانسيّة، ولا تسطيحًا لرابطةٍ لا شَكَّ مُطلَقًا فى عمقها وتوطُّدها بين الجانبين. ثمَّة إشارةٌ افتتاحيَّةٌ رجَّحَتْ افتراقَ الطُّرق وإنْ بصورةٍ ناعمة، ودون تمرُّدٍ كاملٍ على التبعية والتزامات الولاء العقدىِّ. والمقصود ما كان من الأمين العام الراحل حسن نصر الله قبل يومين من اغتياله، عندما أبدى قبولا وقتَها للورقة الأمريكية الفرنسية، بشأن إبرام هُدنةٍ لثلاثة أسابيع، تُستَثمَرُ فى ترقية التفاوُض وُصولا إلى التفعيل الكامل للقرار 1701.
قال بهذا وزيرُ الخارجيَّة اللبنانىُّ عبدالله بو حبيب، وظلَّ فى حيِّز الاحتماليَّة والشكوك إلى أنْ أكَّدَه أمينُ الحزب الحالى نعيم قاسم، ما يعنى أنَّ العقلَ القيادىَّ للميليشيا كان قد توصَّلَ لقناعةٍ بضرورة فَصْل الجبهات، والابتعاد عن غزَّة؛ بعدما تأكَّد أنهم أضرُّوها وتضرَّروا منها، ولم يُقدِّموا فى حرب «الإسناد والمُشاغلة» إلَّا مزيدًا من الذرائع والمُبرِّرات، وتغذية وحشيَّة الصهاينة، وتدعيم سرديَّة زعيمهم النازىِّ بنيامين نتنياهو.
ولا يُمكنُ أنْ تتطوَّر الرؤيةُ لهذا المستوى إلَّا عن استشعارٍ للخديعة والخذلان ورخاوة المُمانَعة، وأنهم وُضِعوا أمامَ فوَّهة البندقيَّة دون اختيارٍ منهم، وتأكَّدوا عَمليًّا أنهم فى مهمَّةٍ انتحاريَّة، وأنَّ «ولاة الأمر» عند العتبة المُقدَّسة لم يَكونوا على قَدر الحدث، أو صِدقيَّة المُعتَقَد والرباط، ويَكِرّون على العدوِّ بأذرُعهم العارية، ويَفِرّون وحدَهم إذا ما طالَتْهُم النار.
تشجَّع «السنوار» بأثرِ النفخ فيه من الخارج، أو اتَّخذَ قرارًا فرديًّا دون استشارةٍ أو مُراجعة، ولإحراج الصديق قبل إيلام العدو، فالمُحصِّلةُ أنَّ غزَّة أُلقِيَتْ فى المحرقة باستخفافٍ عظيم، وأُلحِقَ الحزبُ بها لإبراء الذمَّة وترشيد نزيف السُّمعة، إنما لم تَكُن هُناك خطَّةٌ كاملةٌ لدخول الحرب أو الخروج منها، وبينما تحتمى طهران بحدودِها الشاسعة، وبرنامجِها النووىِّ، وأجندةِ مصالحِها المُتشابكة مع الشرق والغرب، فالكُلفةُ الكاملةُ ستقعُ على عاتق الخاصرة الهشَّة.
لبنانُ مُحمَّلٌ بالتناقضات الفائضة عن طاقته، والأُصولُ الحزبيَّةُ التى تراكمت طوالَ أربعة عقودٍ، صارت مُهدَّدَةً فى وجودِها. ما يعنى أنَّ الرجوعَ الآنَ من مُنتَصَفِ الطريق لم يَعُد اختيارًا أو رفاهية، بقَدرِ ما هو شرطٌ لازمٌ للبقاء وإدامة الفاعليَّة، وهو إن كان يخدمُ طهران على المدى البعيد، فإنه يُعظِّمُ مخاوفَها الراهنةَ، ولا يَتوافقُ مع رُؤاها الساعيةِ لاستبقاء ما تُفاوض عليه الإدارة الأمريكية الجديدة.
والصفقةُ إنْ أُبرِمَتْ اليومَ، فإنها تسلبُها واحدةً من أثمن الأوراق مع ترامب. وإنْ تعطَّلتْ ستحمل مزيدًا من نُذُر الإزعاج على خطِّ التصعيد، واستنفار تلِّ أبيب لواشنطن فى استهداف الجمهوريَّة نفسِها. وهكذا، فإنها تتوزَّع بين خيارين غير مِثالِيَّين: لا تُحِبُّ تحييدَ لبنان حاليًا، لكنها مُضطرَّةٌ لقَبوله على أمل اللعب فى سيناريو المُستقبل.
استراتيجيَّةُ إسرائيل فى الحرب لم تتوقَّف أمام المخاطر الكامنة، وخوافى المغارة الحزبية وما يغطسُ من جبل الثلج. كما لم تحتَكِمْ إلى مَوازِين القوَّة القائمة، ولا الاعتبارات التكتيكية المطلوبة على وجه الاستعجال فحسب. لقد طلبَتْ إفناءَ حماس، لأجل أن يكونَ الهدفُ المستحيلُ بوَّابتَها الذهبيَّةَ نحو تقطيع أوصال القطاع، والترسيخ لوجودٍ دائمٍ أو طويل المدى، والأهمّ «كَىّ الوعى» الجَمعىِّ، وإعادة بناء مُعادلة الرَّدع من أشلاء الضحايا.
القَصدُ أنْ تصنعَ من غزَّة عِبرةً لنفسِها والآخرين، وتُحدِثَ شَرخًا عَميقًا فى مجالِها الاجتماعىِّ، بين الفصائل وحواضنِها، وفيما بين الناس وبعضِهم. وبعدَها، لن يتيسَّر لحماس أن تستعيدَ مراكزها المادية والمعنوية، ولو عجزَ الاحتلالُ عن تصفية مَرافقِها ومَدَدِها العسكرىِّ بالكامل، كما سيتعذَّرُ إحلالُها بأىِّ فصيلٍ مُسلَّحٍ آخر، وربما يصيرُ ترميمُ علاقة النُّخَب بالقواعد مهمَّةً فى حُكم المُستحيل، على الأقلِّ لسنواتٍ طويلة مُقبِلَة.
الرغبةُ نفسُها حكمَتْ السلوكَ إزاء لبنان. لم يَضَعْ «نتنياهو» بين باقة شُروطِه أن يبيدَ الحزب، ولا أن يُخرِجَه من الصورة تمامًا، أكان على صعيد بيئته أم فى المجال الوطنىِّ العام. اتَّخذَه ذريعةً فحسب لتَوسِعة الحرب، والانتقال بها من الوكيل إلى الأصيل، وضمان أنْ يظلَّ قادرًا على التحرُّش بإيران، وعلى دَعوتها إلى الرقص عندما يريد.
كان يتدرَّجُ بشكلٍ محسوب، ويُوسِّعُ عدوانَه لأسبابٍ تافهةٍ بينما يُفوِّتُ مُثيراتٍ أخطرَ فى بعض الأحيان. أبدى منذ البداية التزامًا بما اصْطُلِح على تسميته بقواعد الاشتباك، ولم تكُنْ إلَّا خيالاً فى عقل «نصر الله» ورجاله. لم يَحجُب زعيمُ الليكود إشاراتِه المُبكِّرةَ، منذ تخطَّىَ المحظورَ واغتال صالح العارورى فى قلب الضاحية، مطلع العام وبعد ثلاثة أشهرٍ تقريبًا من الطوفان.
كان واضحًا أنه يُخطِّطُ لشىءٍ أكبر، ويُوزِّعُ طاقتَه على الجَبهَتَين المَفتوحَتين بحسابٍ مُنضبط، وحالما اطمأنَّ إلى الجنوب أنشبَ مخالبَه فى لحمِ الشمال، وبطشَ بالمدنيِّين أضعافَ ما صوَّبَ على العسكريِّين، وكنَسَ قُرابةَ رُبعِ السكان وأغلبهم من الحاضنة الشيعيَّة بعيدًا عن بيوتِهم، ولاحقَهم فى أماكن النزوح، ولم يُوفِّر بقيَّةَ المُدُن والطوائف من الاستهداف.
أرادَ أنْ يُكرِّرَ الأُمثولةَ، ويُبشِّرَ اللبنانيِّين بحكاية «رأس الذئب الطائر» فى غزَّة، أو بحكاياتِهم الشبيهة مع الصهاينة، من غزو العاصمة إلى صِدام 2006 وترسيخ «عقيدة الضاحية». وفى الوعى فاصلٌ دَمَوىٌّ سخيفٌ من الحرب الأهليَّة، تتوافرُ كلُّ أشراطِها دائمًا، ولا يمنعُ وقوعُها إلَّا الميثاقيَّة التى بُنِيَتْ عليها الدولةُ، وتجدَّدتْ فى اتِّفاق الطائف، ولم يفعَلْ الحِزبُ شيئًا أكثر من انتهاكِها بالسلاح والسياسة، وباحتكارِ قرار الحرب، وتدفيع الآخرين تكاليفَ النزوات.
لندَعَ الشروطَ والتشدُّدَ فيها جانبًا. واقعُ الحال أنَّ مُحاولةَ امتصاص السخونة لم تتوقَّف، نَشَطَ الغربُ والشرق على محور الاتصال بين بيروت وتل أبيب، وزارَهما المبعوثُ الأمريكىُّ آموس هوكشتين عديد المرات، آخرها فى خواتيم الأسبوع الماضى، وما عَطَّل التوافُقَ أنَّ نتنياهو كان يعودُ لحُلفائه التوراتيِّين، ويستترُ وراء نزاعات الساسة والجنرالات، بينما يستضىءُ الحزبُ بمَشورة طهران ويخضَعُ لإملاءاتها، ولا يضعُ شُركاءَ الداخل فى صورة الميدان ولا خطَطِ إدارته.
وهكذا يتجلَّى الفارقُ واضحًا بين الجبهتين المُتحارِبَتين، وتتصاعدُ المخاوف بشأن التهدئة مثلما كانت مع الحرب. والقَصدُ أنَّ إسرائيل لو نزلَتْ على خيار التهدئة فستكونُ خطوةً إجماعيَّةً، أو على الأقلّ محلّ وُفاقٍ عريض، إنما مَدلولُها من الجانب الآخر لا يبتعدُ كثيرًا عن الاستبداد الحزبىِّ، ويُغيِّبُ كاملَ المُكوِّنات اللبنانية بمن فيهم عَوام الشيعة. وبهذا يصَّاعدُ الخطرُ من أن يكونَ الاتفاقُ بدايةً لجولةٍ جديدة من الصراع، وإنْ اتَّخذَتْ طابعًا أقلَّ خُشونةً، وتبدَّلَتْ إحداثيَّاتُها من الخارج إلى الداخل.
ما يُريدُه العدوُّ أن ينسَحِبَ المُقاتلون بسلاحِهم إلى شمالىِّ الليطانى، وإنهاء مظاهر العداء فى الثُّلث الجنوبىِّ من لبنان، ولاحقًا النظر فى نَزع السلاح بالكامل. وإلى أن يحدُثَ الشَّرطُ الأخير، فإنَّ آلاف الحزبيِّين سيعودون ببنادقِهم من الهامش العسكرىِّ إلى تُخوم المتن الاجتماعىِّ، وما زالَ الحزبُ مُهَيمِنًا على القرار السياسىِّ، ويحجُبُ البرلمانَ عن ملء الشُّغورِ الرئاسى، ويُقوِّضُ الحكومةَ بثُلثِه المُعَطِّل.
وإذا كان قد تلطَّى فى السابق وراء شعار «لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ المعركة»، فإنَّ ما بعد إسكات المدافع ومنصَّات الصواريخ، يتطلَّبُ البحثَ عن أصواتٍ مُغايرةٍ، تُلائِمُ حالَ الهدوء، وتستجيبُ للظرف الحَرِج وتحدّياته ثقيلة الوطأة، مع قَطْعِ الطريق على توجيه فائضِ القُوَّة إلى معمار الدولة ومُرتكزاتها، أو تعويض خسائر الميدان من رصيد التعايُش الهَشّ، والمُوشِك على النفادِ أصلاً.
انشغلَ محورُ المُمانَعة بأجندتِه، وتناسَى التزاماتِه تجاهَ بيئاتِه ومواجعِها القاهرة. لم تضَعْ «حماس» أىَّ شىءٍ يخصُّ الغَزِّيين بين أهدافها، ناهيك عن أن يكون أولويَّةً كما يُوجِبُ المنطقُ السليم. وتفاوَضَ الحِزبُ مع العدوِّ ولم يفعَلْها مع الشقيق.
صحيحٌ أنَّ واجبَ التهدئة واستنقاذِ البلاد من آلةِ الحرب الصهيونية كان يتقدَّمُ على كلِّ اعتبارٍ آخر، لكنه لم يَكُن يمنعُ فتحَ قنواتِ الحوار مع الشُّركاء على أرضيَّةٍ وطنية، لو صدَقَتْ النوايا، لا سيَّما أنَّ الهيئة السياسيَّة للحِزب فى حالِ خُمول، وليست عليها التزاماتٌ تجاه الجبهة، وبإمكانِها الجلوس إلى طاولةٍ لبنانيَّة مُوسَّعة، تنظرُ فى الراهن وتُرتِّبُ مَلامحَ المُقبل.
وعلى العكس تمامًا، فما حدَثَ أنَّ البلدَ رُفِعَ بكاملِه من الخدمة لدى الحزب، وحتى عندما أعلن «نعيم قاسم» تفويضَ الرئيس نبيه برّى بالتفاوُض عنهم؛ شَفَعَ تفويضَه بصِفَة «الأخ الأكبر»، وليس لأنه رئيسُ البرلمان، ولا لكَونِه ضِلعًا فى مُثَّلث السُّلطة، وشخصيَّةً سياسيَّةً وَازِنَة، تحتفظُ بمسافاتٍ مُعتَدِلَة وإيجابيَّة مع أغلب التيَّارات. والحقّ أنّه تلقَّى الهديَّةَ بشُروط صاحبها، ولم يَنحَرِف عن حدود الوكالة؛ لينتَقِلَ من صِفَتِه الشيعيَّة إلى تمثيل الهَمِّ الوطنىِّ العام.
وعلى ما تَقَدَّمَ، فالتسويةُ المُؤقَّتة مع إسرائيل، وإعادتها إلى ما وراء خطِّ الانسحاب بعد سنة 2000، سواء جَرَتْ أمسِ على المَوعد المُبشَّر به أو تأخَّرت لعِدَّة أيَّام، وسواء امتدَّت بتفعيل القرار الأُمَمىِّ أو تعطَّلَتْ بعد مُهلة الاختبار المُحَدَّدة بشَهرين، فإنها قد تُبَرِّدُ الجنوبَ وتُسَعِّرُ بقيَّة الخريطة اللبنانية، إذ ستَضَعُ حصيلةَ المُغامرة الطائشة طوالَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا مَضَتْ، وأثرَ الاستبداد بالدولة وقَرارِها لسنواتٍ طويلة سابقة، على طاولة البحث العام خارج الأَسقُف والاعتبارات القديمة.
سيتطلَّعُ الحِزبُ لإدامة حَظوته، وسيُطالِبُ آخرون بتَكمِيمه ورَدِّه مُكوِّنًا سياسيًّا عاديًّا بين بقيَّة المُكوِّنات، وكلاهما يَعجَزُ عن فَرضِ رُؤيته أو تقويض الآخر. ولا سبيلَ لترميم الشقوق النفسيَّة والموضوعية، إلَّا من خلال ورشةِ عَمَلٍ تستأنِسُ بالدستور وميثاقيَّة الطائف، وذخيرة التجربة الطويلة منذ المُتَصَرِّفيّة ولبنان الكبير وما بعدهما.
وإذا تشدَّدَ الحِزبُ فى الوصاية المَنقولَةِ من خلاله إلى طهران، فقد يُجدِّدُ خُصوُمه دعاوى الفيدرالية والانقسام على الوطن، بعدما أكَّدَتْ الخِبرةُ الماضيّة بكلِّ نزيفِها الهادر، أنه قُزِّمَ ليُناسِبَ تطلُّعات جُزءٍ ضئيلٍ منه، ولم يَكُن فى وَعى بعضِ أبنائه أكثرَ من رصاصةٍ بين حَشوةٍ بندقيَّةٍ مَذهَبيَّةٍ عابرةٍ للحدود.
ما زالَ فى النفس شىءٌ من النبرة الإسرائيلية المُستجَدَّة، والعَهدُ بهم أنهم ما يَغزلون إلَّا ليَنقُضوا الغَزْلَ، وما نزلوا على اختيارٍ ودَاومُوا إلَّا مُضطرّين، وشرطُ الاضطرار لا يتحقَّقُ للأسف فى الحالة اللبنانية. لديهم أفضليَّةٌ فى الميدان، ويَعرفون أنهم يَضغطون على الجار الشمالىِّ فى أشدِّ حالاته رخاوةً، ويَعُضّون أعصابَه العاريةَ بالحديد والنار.
ونتنياهو إذ قال إنه سيُقدِّمُ هديَّةً لترامب فى ولايته الثانية؛ فيَصعُب أن تكونَ سابقةً على التنصيب لتَصُبَّ فى رصيد بايدن، كما يَصعُبُ التخلِّى عن لبنان اليومَ؛ ليجد نفسَه مُضطرًّا للتهادى بغزَّة غدًا. ما يُثيرُ الشَكَّ فى جديَّة المُقاربة التَّهدَويّة، وفى استدامتها إنْ حدَثَتْ، إنما فى كلِّ الأحوال بات مقطوعًا بأنَّ جولةَ الإطفاء ستبدأ شمالاً، وربما بفارقٍ طويلٍ نسبيًّا عن الجنوب الغَزِّى البائس.
الخُلاصةُ أنَّ الاتِّفاق وَشِيكٌ مع الآخر، لكنَّه صَعبٌ وبعيدٌ وأقربُ إلى الاستعصاء مع النفس. المطلوبُ من الحزب فى الجبهة مُحدَّدٌ بقرارٍ دَولىٍّ واضح، لكنَّ المطلوبَ داخليًّا غائمٌ وخِلافىٌّ وفى حال السيولة، وكلاهما لا ينسجمان معًا، لأنهما يعنِيَان تقويضَ خَزّان التأثير الميدانىِّ بالعاطفة والقوَّة، والخَصْم من المركز السلطوىِّ المُتحَقِّق بالسلاح والمُؤازِر له.
وواقعُ الأمرِ أنهما مُتِّصلان اتِّصالاً عضويًّا لفائدة الطائفة والدولة، لو أحسَنَ قادةُ الضاحية النظرَ فى الوقائع والمآلات. إذ لو صَدَقُوا فى الالتزام بسَقف الطائف، كما قال نعيم قاسم، فالواجبُ أنْ يتقدَّمَ الحزبُ على الميليشيا. وحتى لو كانت مناورةً؛ فإنَّ ترميمَ القُدرات العسكريَّة مَرهونٌ بتحصين الوضعيَّة المدنيَّة، واستعادة حالة الوفِاق والتسليم بثلاثية «الشعب والجيش والمقاومة»؛ بعدما فقَدَتْ وَهجَها فى عيون بقيَّة الطوائف.
بمُجرَّد التوقيع مع إسرائيل، سينتقلُ الحزبُ من التحدِّى الأصغر إلى التحدِّى الأكبر، وسيكونُ عليه أنْ يستوعِبَ واقعَه الجديدَ، ويحترمَ التزاماتِه تجاهَ الدولة ومصالحِها العُليا. وأَوَّلُ التقويم أن يضبِطَ علاقتَه مع إيران تحت شعارِ المُمانَعة وعبر تذخير الطائفة وتفخيخها، تمهيدًا للخلاص من قُيودِها التى تجاوَزَتْه إلى تقويض لبنان بكاملِه، كما سيكونُ عليه أن يتواضَعَ أمامَ البلد بتَعقيدِه المُركَّب وأمراضِه الموروثة، وأن يتخلَّى عن وَهْمِ أنه مُنتَدَبٌ لعلاجِه على غير إرادته، ناهيك عن أنه يُبدِّلُ دومًا بين الوَصفات الخاطئة.
وليسَتْ مُبالغةً لو قُلنا إنَّ التناقُضَ مع الصهاينة، أوضحُ وأيسَرُ من تناقُضات الحزب مع بيئته الداخليَّة؛ لأنَّ العدوَّ مَعروفٌ فى كيانِه وأهدافه وحدود اللعب معه، بينما الحاضنةُ اللصيقة وُضِعَتْ فى مَرمَى العداوة من جانبه، وتعرَّضَتْ لفيضٍ غاشمٍ من الوَصْم والتخوين، وثَبَتَ فى النهاية أنها ضمانةُ الحزب وسبيلُ نجاته الوحيدة.
وإذا كانت العِبرةُ مع الاحتلال بالتنفيذ لا بنود الاتفاق، والمخاوفُ عاليةً بشأن التزام نتنياهو، وألاعيبه المُعتادَة فى اختراع المُنغِّصات وتلفيق الذرائع والحجَج، فإنَّ اللقاحَ المأمونَ يَظَلُّ فى ثلَّاجة التعايُش والميثاقيَّة الجامعة، وفى إقناع الشُّركاء بأن القابضين على خناقِ المُكَوِّن الشيعىِّ توقَّفوا عن المُغامرات الفجَّة، وعن المُكاسَرة والاستئساد، ودعاوى العَدِّ والمُغالبة بالحشود وفوائض القُوى.
الاتفاقُ فصل للجبهات، وعودةٌ عن شعارات الإسناد والمُشاغلة، وإخراج للجنوب من حرب غزّة، ومن أجندة الشيعيّة المُسلَّحة فى المحكَّات الراهنة. والمغزى، أنَّ الحزبَ يتقبَّلُ بالصفقةِ حالةً تُشبِه الهزيمةَ أمام الصهاينة؛ ولا عيبَ على الإطلاق لو قرَّرَ لمرَّةٍ وحيدة، وأمينةٍ وصادقةٍ مع النَّفس، أنْ يُهزَمَ أمامَ الأشقاء، لا لطائفةٍ أو مَذهبٍ أو منفعةٍ بعَينها، إنما لفائدةِ الجميع، ولصالح الوطن أوَّلاً وأخيرًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة