إذا ما اتسقت الحرية مع ماهية الوحدة الوطنية وحققت حماية وصون مقدرات الدولة ودعمت ما يتبناه الشعب من قيم نبيلة تحض على السلوك القويم وتحظر كل ممارسة وفعل وقول من شأنه أن يخالف أخلاقيات التربية؛ حينئذ تصبح الحرية أمرًا وجوبيًا تسهم في تحقيق غايات البناء والتنمية وتشعر الجميع بالأمان وتخلق مناخًا للعمل التنافسي في ظل مساواة وعدالة وتكافؤ للفرص بين كافة المواطنين.
وهنا نؤكد على أن الحرية غير مبتورة في معناها العميق؛ حيث إن ما ذكر سلفًا يضمن للفرد أن يمتلك تصرفات غير منقوصة في ضوء قوانين تحقق له ولغيره فلسفة الأمن والأمان والاستقرار والتكيف والتوافق النفسي في الحياة العامة أو عبر مفردات البيئة الافتراضية المفتوحة، وهذا يشكل صورة الحرية التي تبني ولا تهدم وتدعم ولا تفكك وتعضد الإيجابية ولا تورث السلبية.
وحدود الحرية التي تضمن خلق بيئة آمنة يستطيع من خلالها أن يستشعر الفرد بأن حقوقه مصونة وحقوق غيره محل اعتبار واحترام وتقدير في ضوء قيم مجتمعية أصيلة تحافظ على النسق المجتمعي، ومن ثم تحث الحرية المسئولة على إبداء الرأي السديد والحرية في عرض فكرٍ بنّاء يُسهم في دفع عجلة الإنتاج في شتى مجالات الحياة العلمية والعملية والعامة.
وتعالوا بنا نفرق بين الحرية المسئولة والحرية المطلقة؛ إذ نرصد حالة التخبط والفوضى والتشرذم والتفكك حال إطلاق العنان لكل من يود إطلاق الشائعات والشعارات التي تنادي بهدم كيان الدولة والتلميحات غير المقبولة لرموز الدولة بحجة الحرية المطلقة، وفي المقابل نجد أن الحرية المسئولة تشعر الجميع بأهمية التوافق والتضافر من أجل بناء الوطن وحماية مقدراته وحل مشكلاته والتصدي لما يواجهه من تحديات أو أزمات سواءً أكانت طبيعية أم مفتعلة.
ودعونا لا ننبهر بما يحدث في المجتمعات والدول الأخرى التي تدعي زورًا وبهتانًا منح الحرية المطلقة لمواطنيها؛ فمسلمة أمن وأمان واستقرار الأوطان لا تتسع لحريات تهددها أو تكدر الصفو العام بها، وفي الآونة الأخيرة شاهدنا ورصدنا صور القمع المبرح الذي طال كل ما ينادي بالحرية ووقف العنف والحروب الدموية المفرطة في دول كبرى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ازدواجية المعايير وضعف التمسك بفحوى القيم النبيلة في صورتها المجردة.
والغريب والمستهجن خروج بعض المؤسسات والمنظمات التي تحمل مسميات تدعي إفكًا أنها منظمات حقوقية لترفع شعارات وتطالب في خضمها بتعزيز الحرية في بلاد أخرى، وتجدها تبلع ألسنتها وتكفكف أوراقها حينما تدحر الحريات ببلادها، وهذا يجعلنا نرى ما تواريه الأقنعة من صور النفاق الذي يحمل بين طياته أجندات تستهدف النيل من بلاد آمنة مطمئنة مستقرة.
وهذا يجعلنا نوقن أن الحرية قيمة نبيلة نتمسك بها وفق معيار رئيس معلن فحواه الحفاظ على كيان الدولة وتعضيد مراحل نهضتها ورفعتها وتقدمها وتعزيز ماهية الانتماء والولاء واستبعاد كل ما من شأنه أن يحدث الخلاف والفرقة ويؤدي إلى التشرذم والشقاق، وهنا نستيقن بأن الحرية المسئولة تعد سفينة نجاة للفرد والمجتمع في آن واحد؛ فتسمح له أن يمارس حريته وفي المقابل لا يقوم بممارسات تؤثر سلبًا على الآخرين.
وندرك أن للحرية المسئولة العديد من الثمار والتي منها تهيئة المناخ لعلاقات اجتماعية في إطار يتخطى كافة الحواجز سواءً أكانت ثقافية أو عرقية أو حتى سياسية، وهذه دون مواربة يؤصل لفكرة التعاون اللامحدود والتواصل الفعال الذي يقوم على فلسفة المشاعر الإنسانية التي تخلو من الأحقاد والضغائن والأفكار السلبية تجاه الآخرين بغض النظر عن الأسباب أو المسببات أو الخلفيات التي تقف وراء ذلك؛ فما نؤمن به أن الإنسان خلق ليحب ويكون معطاءً وبناءً ويتعاون ويشارك، لا ليكون قاسيًا أو مخربًا أو ماكرًا أو يحمل بين جنباته ما لا يقبله الواجدان النقي.
إن حريتنا المسئولة توجب علينا دون مواربة أن نعترف بحقوق الآخرين ونحترم ثقافتهم ومعتقداتهم، ونتشارك الشأن العام كي نتكاتف فيما يواجهنا من تحديات وأزمات ومشكلات؛ حيث يصعب على أمة أن تحقق غاياتها بعيدًا عن التضافر والتماسك وتقوية نسيجها الوطني، كما يصعب أن تحدث استدامة بعيدًا عن استثمار طاقات الجميع بصورة إيجابية.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
__________
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة